عودة للصفحة الرئيسية

شخصية المأذون

عندما بدأت السينما المصرية في تناول الدين الإسلامي كانت تفعل ذلك في حذر وتحفظ لئلا تثير حفيظة رجال الأزهر ، ثم ازدادت الجرأة مع تغيير الظروف السياسة إذ أصبح الأزهر ورجاله بلا دور وبلا فعالية سياسية ، بل وأصبح هدفا لسهام السينما المصرية التي أصبحت منذ ذلك الحين أحد الأسلحة الفكرية للنظام السياسي في مواجهة الأزهر. "وقد كانت الخطوة الأولى إسقاط هيبة علماء الدين والتنفير و"السخرية من طالب العلم الديني وأستاذه ، والتفرقة بين أستاذي الدين والمواد الأخرى في كل شيء .. تفرقة مرسومة مقصودة من حيث فرص العمل المتاحة أو الأجر أو المظهر .. وفي اللاشعور يرسب ذلك كله نفورا من الدين وإقبالا على غير الدين".

وقد تكفلت السينما المصرية باستخدام شتى الأساليب الفنية لطمس سمة اجتماعية راسخة في النفوس هي احترام الدين والمتدينين وعلماء الأزهر والزي الأزهري أينما قابلوه . فقد كان فيما مضى يلقى لابس هذا الزي التقدير والاحترام حيثما ذهب. فكيف استطاعت السينما طمس هذه المعالم ، وما الأدوات المستخدمة ؟. تحت دعاوى الترفيه والتسلية حشدت الأفلام معظم المشاهير من نجوم الفكاهة الذين ظهروا في الخمسينيات وحتى يومنا هذا لأداء مهمة السخرية من رجال الأزهر، و أصبحت شخصية المأذون أحد العناصر التي تمثل الثوابت الكوميدية لصناعة فيلم هزلي ، إنها الشخصية الجاهزة للسخرية منها حتى أصبح المشاهد العادي يتوقع منها سلوكا هزليا على الشاشة .

المأذون الشرعي في الأفلام: مقدمة تاريخية

يقول الشيخ طاهر خراشي رئيس جمعية المأذونين: كان الزواج قبل العصر الفاطمي يتم شفاهة، ولما دخل الفاطميون مصر استحدثوا عملية تسجيل العقود، وأوكلوا في البداية توثيق العقود إلى القاضي الشرعي .. ولما كثر العمل على القاضي طلب من أحد العلماء أن يساعده وسمّي "مساعد القاضي" وكان يحمل دفتراً يقوم بتسجيل بيانات الزوجية فيه، واستمر الوضع هكذا حتى بداية عهد محمد علي حين بدأ وضع طريقة لعمل المأذونية حيث صدر أول تنظيم سنة 1824م وبمقتضاه أصبح العالم الذي يساعد القاضي "نائباً شرعياً" له، وكان القاضي يتولى تعيينه ليساعده في القضايا الصغيرة مثل قضايا الرهون والبيوع وعتق الرقبة … وظل هذا النظام سارياً حتى عام 1884م بعد صدور المحاكم المختلطة فتم تعديل اسم "النائب الشرعي الشريف" إلى "مأذون عقود الزواج والطلاق" واستمر العمل به حتى عام 1899م حيث صدرت أول لائحة تضع نظاماً لمن يشغل هذه الوظيفة، واشترط أن يكون من علماء الأزهر الشريف، وأن يكون حنفي المذهب، وأن يكون من أهل المنطقة التي يعمل بها، وأن يتم شغل هذه الوظيفة بإجراء انتخابات بين المتقدمين. واستمر الوضع هكذا حتى عام 1913م حيث وضعت لائحة ثانية للمأذونين تضمنت شروطاً شرعية و إدارية أخرى.. واستمر الأمر على هذا النحو حتى عام 1956م بعد إلغاء القضاء الشرعي فصدرت لائحة ثالثة لعمل المأذونين تمنع المأذون من الجمع بين وظيفته وأي وظيفة أخرى. وحالياً هناك لجنة في كل محافظة يرأسها مستشار وعضوية اثنين من رؤساء المحاكم تتولى تعيين أو فصل أو تأديب المأذونين ومحاكمتهم ومساءلتهم في حالة المخالفة. وقد بلغ عدد المأذونيات في مصر (حوالي) 7500 مأذونية على مستوى كافة المحافظات." ويقول الدكتور عبد الغفار عزيز أستاذ ورئيس قسم الدعوة بالأزهر:

" إن المأذون كان ومازال يسمّى في بعض القرى بـ "المفتي"، لأنه يعرف الحلال والحرام يوثق أقدس عقد في الحياة" .

مشاهد المأذون في الأفلام

يقول الشيخ السيد شمس الدين السكرتير العلمي للجنة الفتوى بالأزهر: "إن إحضار مأذون وتصويره بشكل كاريكاتيري هو أسلوب سخرية يرفضه الإسلام". ويقول الدكتور محمد أحمد أبو موسى الأستاذ بجامعة الأزهر:" إنني ضد السخرية من المأذون وتصويره بهذا الشكل في الأعمال الفنية، لأن "العمامة" التي يرتديها المأذون لها كرامتها واحترامها" . وقد أعلنت لجنة الفتوى بالأزهر أن تصوير مشاهد الزواج بين الممثلين والممثلات حرام شرعاً. قالت: إن إحضار مأذون وشاهدين بالشكل الذي نراه في الأفلام والمسلسلات أمر مرفوض لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزواج من الأمور التي لاتحتمل الهزل فقال عليه السلام:"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والعتاق". ولأن المعقود عليها في (الفيلم) إما أن تكون متزوجة وهنا تكون قد تزوجت من رجلين في وقت واحد، وإما إن تكون غير متزوجة فتصبح زوجة شرعية لزميله الممثل.!!

لماذا المأذون بالذات ؟

والإجابة تكمن في التوجه الإسلامي الذي يتميز به المأذون بحكم ثقافته الإسلامية وعمله ، فالمأذون يكون عادة متخرجا في الأزهر ويكون عالما بالأحكام الفقهية وأحكام الزواج والأسرة في الإسلام عالما بالحلال والحرام حافظا للقرءان الكريم، متحدثا اللغة العربية الفصحى ، هذا هو المضمون الفكري للمأذون الحقيقي ، أما الشكل الخارجي فيتميز بارتدائه الزي الأزهري المعروف المكون من الجبة والقفطان والعمامة ، والفكرة الرئيسية هنا أننا عندما نسخر أو نرفض وعاء معينا يمثل الشكل الخارجي فان الرفض ينسحب بالتالي على المضمون أو المحتوى لهذا الوعاء ، فمثلا إذا عرض عليك كوبا من الشاي ، الشكل الخارجي هنا هو الكوب من الخارج ، فإذا نجحت في أن أجعلك تشمئز من مظهر الكوب من الخارج ، فانك بالتالي سوف تشمئز أيضا من المحتوى (أي الشاي) . وبسبب هذا المضمون الإسلامي للمأذون فقد توجهت أقلام كتاب السينما إلى هذه الشخصية لتحقيق هدف مزدوج وهو السخرية من الدين الإسلامي متمثلا في أحد رموزه البعيدة نسبيا عن بؤرة الصراع العقدي ، فيتم بذلك ضرب الدين وزرع ارتباطات شرطية لدى المشاهد المسلم مؤداها أن كل رجل يرتدي الجبة والعمامة والقفطان الأزهريين ينبغي ألا نتوقع منه غير سلوك هزلي كالذي نراه على الشاشة ، ومن ثم لا نحترمه ، وبالتالي لا نحترم ما يحمله من مضمون فكري يمثل جزءا مهما من الثقافة الإسلامية .

أما الجانب الآخر من الهدف المزدوج فهو تجنب ردود فعل الجمهور إذا تناولت السينما شخصية إمام مسجد مثلا بالسخرية تجاه تناول هذه الشخصية ، وبهذه الطريقة يتم تمرير رسائل إعلامية مدمرة تمهيدا للانتقال إلى الهجوم على الوجدان الإسلامي العام ، ويبدو أن ردود فعل الجمهور المسلم كانت مشجعة جدا للسينمائيين الذين تناولوا هذه الشخصية بسخرية ، ذلك أن الهجوم قد اتسع ليشمل عدة اتجاهات تهدف إلى ضرب حصار حول الإسلام في نفوس الناس عن طريق تطويق الأشخاص الذين يعتبرون مصدرا مباشرا للدعوة الإسلامية .

النمط السينمائي للمأذون

قامت السينما بتقديم المأذون معتمدة على أنماط سلوكية سينمائية من صنع السينمائيين أنفسهم وأهمها :

  • تظهره الأفلام كشخصية أكولة ، يسيل لعابه لرؤية الطعام شرها دنيئا.

  • كما تظهره السينما ممسكا بدفتر كبير مرتديا الزي الأزهري المعروف عمامة وجبة وقفطان .

  • يتحدث اللغة العربية الفصحى بشكل يجلب الاستهزاء إليه والى اللغة العربية ذاتها ، إذ انه يتأرجح بين تفصيح اللهجة المصرية الدارجة والتقعر في نطق العربية الفصحى ، وكلا الأسلوبين يجعلك تسخر من اللغة العربية والهدف من ذلك تمزيق الرباط الوثيق بين القرءان الكريم والمسلمين عن طريق إبعاد الناس عن اللغة التي لا يفهم التراث الإسلامي إلا بها ، حيث إن اللغة تعتبر وعاء الفكر عبر الأجيال .

  • يظهر المأذون وهو يشارك في زواج باطل شرعا حين يتم إجراءات زواج صوري لمحلل كما في فيلم زوج تحت الطلب ، أو يطلق امرأة عنوة من زوجها ليزوجها للعمدة كما في فيلم الزوجة الثانية .

  • تظهره في مشيته وحركته كالبهلوان مما يصبغ الشخصية بصبغة هزلية تجلب الاستهزاء أكثر مما تجلب الإضحاك .

وقد يبدو الأمر هينا وانه مجرد تسلية تنتهي ملابساتها فور الانتهاء من مشاهدة الفيلم الكوميدي ، ولو كان الأمر كذلك بالنسبة للكبار الناضجين -وهو افتراض غير صحيح – فإن الأمر يختلف بالنسبة للأطفال الصغار ، إذ إن هناك ”ظاهرة فريدة للسلوك البشري تعرف عليها كل من كاجان وموسن في الستينيات من هذا القرن وهي ظاهرة التأثير النائم ، وتعني انه قد تكون هناك مؤثرات معينة أحدثت تأثيرها عند الطفل ، ولكن نتائج هذا التأثير لا تظهر لنا مباشرة ، بل يظل التأثير نائما فترة طويلة ينتظر عوامل خارجية وداخلية توقظه ليظهر ، فقد يظهر في مرحلة البلوغ أو المراهقة أي بعد حدوث التأثير بسنوات عديدة " ، وربما يظن البعض أن تصوير شخصية المأذون بهذه الطريقة لم تترك أثرا سيئا لدى الطفل أو البالغ، إلا أن التهكم على الشكل الخارجي لشخص ما يستوجب التهكم على المضمون الفكري الذي يحمله هذا الشخص ، بل والأدهى من ذلك أن الإنسان يضيف تلقائيا عدة صفات سيئة إلى مضمون هذه الشخصية دون أن تكون هذه الصفات موجودة عندها أصلا..! فعندما يتم تصوير المأذون بمضمونه الثقافي الإسلامي على انه مادي تافه هزلي شره أكول أزهري الملابس فان الشعور الذي ينتاب المشاهد بتفاهة وهزلية هذه الشخصية سوف يتم تعميمه على المضمون الإسلامي الذي يتميز به أصحاب الزي الأزهري عموما ، ومن ناحية أخرى سيقوم المشاهد بإضافة صفات أخرى لم تعرضها الشاشة وهي ما تسمى بعملية ملء الفراغ، الأمر الذي يمكن تفسيره في ضوء خصائص الإدراك والعمليات الذهنية فعلى سبيل المثال :

إذا توصل الشخص (أ) إلى أن الشخص (ب) شخص جاد ومخلص ، فانه قد يضيف إلى ذلك انه أيضا شخص أمين ..! بالرغم من عدم وجود أو توافر أي معلومات عن أمانة الشخص (ب) ..! ولكن الشخص (أ) يفعل ذلك لان الأمانة جزء من الجشطالت أو النمط الذي قد يكون لديه بخصوص هذه المجموعة من الصفات الشخصية .

إذاً فالأمر مفتوح لإضافة مزيد من الصفات إلى المأذون وإلى الأزهريين عموما تبعا لرصيد كل مشاهد من الصفات المترابطة على شكل جشطالت والتي يمكن أن تكمل الصفات المطروحة على الشاشة ، ومما يجدر الإشارة أن شخصية المأذون قد يتم تصويرها وهي تنطق عبارات محترمة أو أحاديث شريفة كنوع من التمويه "إلا أن الرسالة غير اللفظية التي يوجهها الفرد (الشخصية) قد تحمل معان مختلفة تماما عن الرسالة اللغوية .. بل قد تتناقض تماما مع الرسالة الموجهة باللغة (والرسالة غير اللفظية هي التي تعتمد على الحركات مثل حركات اليد أو الوجه أو الرأس أو طبقة الصوت ) " ، ومن اشهر الممثلين الذين قاموا بدور المأذون : محمد شوقي وشفيق نور الدين وعثمان عبد المنعم.

لقد أحدثت السينما ما أرادته من تأثير من خلال تكرار هذا النموذج عبر مئات الأفلام الكوميدية "حيث يؤمن عدد كبير من علماء الاتصال بان تكرار الرسالة الإعلامية من العوامل التي تساعد على الإقناع... ولكن ماذا عن التأثير الطويل الأمد للمصدر (السينمائي) على المتلقي (الجمهور) ؟ :

بعد مرور فترة زمنية يمر المتلقون بعملية ذهنية يفصلون فيها المصدر عن الرسالة نفسها فيتذكرون ما قيل – أي مضمون الرسالة – ولكنهم لا يتذكرون مصدرها – أي قائلها- وهذا ما حدث للجمهور في مصر فقد أصبح من المألوف أن ترى الناس والشباب خاصة وهم يستهزئون ويتندرون بمن يرتدي الزي الأزهري خاصة المأذون ، ولم يدرك أي منهم أن هذا السلوك الذي يمارسونه تجاه المأذون إنما أوحته إليهم السينما وقد نسوا المصدر ولم يتذكروا سوى الرسالة .

عودة للصفحة الرئيسية


فصل من كتاب: الاختراق الثقافي في السينما المصرية- تأليف الإذاعي/ مجدي صلاح أبوسالم